الاثنين، 23 يناير 2012

إلى صديقي السوداني

- كب ليه الشاي. هنا ما في ست الشاي. في برد شديد . وفي عنصرية او "اونسورية" زي ما كان يقول حبيبنا ابو بكري .
كب الشاي وخلينا نسمع عود مصطفى سيد احمد بيغني للطيور اللي ما في ايدها جواز سفر وما بتعرف ليها خارطة .
كب الشاي ومعاهو حنين كتير للحلة والناس اللي بهناك. 
كب الشاي . اجري من الفقر والديكتاتورية وتعال لمصايب تانية . بلادنا دي كلها معفنة . وزي ما قال سيد درويش :  ما فيش فلوس وبوكر ما فيش قهاوي رقص ما فيش .
كب الشاي واقعد نتونس مع الناس الطيبين . ما كتار الناس ديل في لبنان لكن موجودين . وبيقولو كلام جميل . زي الكلام ده:

إلى صديقي السوداني

خضر سلامة
اسكب كوباً آخر من الشاي يا صديقي، فبرد بيروت لا يرحم، وشعبها أيضاً، هذه النار في كبد الابريق تلسعني وتلسعك، أما سياط عيون الناس وصراخهم وشتائمهم القذرة، وسفالة رجل الأمن المقفل بقفل الأجهزة العنصرية، تلسعك وحدك، اسكب كوباً من الشاي، في بخار الشاي سراباً يشبه صورة الوطن الجميل الذي يتلاشى مع كل نشرة أخبار لبنانية جديدة، وفيه أيضاً، طبول بلاد النوبة، تذوب في هذا اللون الأبيض السام الذي يحاصرني، ويحاصرك.
صديقي السوداني، هو المبتسم لفتاة صغيرة لأنه يرى فيها أحلام أخته الصغيرة التي تركها تنتظر حصتها من رغيف الحزن في قريته النائية، والفتاة تبكي، لأن رجلاً قبيحاً برتبة والد، خوّفها من رجل أسود يخطف الصغار الكسالى، ولأن أمّها المتبرجة بأمراض العصر، حذرتها من الفقراء الغرباء الطيبين، صديقي السوداني، هو الموشوم بمذكرة اتهام دائمة، على أي حاجز أمني، يقوده ضابط يطأطأ الرأس ككلب منزلي مطيع للّص القابع خلف مكتبه، ولا يقوى إلا على الحزن الأسمر المجرّد من انسانيته، لأن عورة وطني لا تنتصب إلا بساديّة تمزّق تعب نهار كامل لعامل أجنبي، لم تفلح الصدفة في إعطاءه جواز سفر أوروبي، كي تخر الحكومة كلها سجوداً له عندها.
19_6_orig
صديقي السوداني، هو المثقف جيداً، والعارف بشؤون العرب وشجونهم، هو المتمسك بصورة السودان كما يراه، معسكر منذ ستين عاما للعمل الفدائي، والمتأبط أغاني العرب كما درسها في مدرسة حقول القطن، وطنٌ أبنيه مع صديقي السوداني، أجمل بكثير من وطنٍ يبشرني به دعاة السلام الخائب، صديقي السوداني، هو الذي ترميه حقائب التهريب على شواطئ أوروبا، أو في شوارع لبنان، أو في عتمة أمريكا، فيرفض أن يكون أقل من عامل يعيد رسم ملامح الأوطان ويبنيها، ثم يود لو يشتري لأبيه تذكرة حج إلى مكة، فيرد قليلاً من الجميل الجميل.
هو الهارب من موتٍ في بناء منهار، ليجد نفسه في أقبية الأمن العام العار.
هو الخارج مصابا من حادث عمل، فيرميه رب العمل لكلاب الداخلية ووزارة الصحة.
هو حارس العمارة من غدر اللصوص اللبنانيين جداً، وهو من يقدم لأمك ربطة الخبز، لأنك أجبن من أن تواجه برد العاصفة، أو حر الصيف، وهو من ينظّف فناء الدار من قذارتك البدائية برمي نفاياتك في الشارع، هو طبيب تجميل لصورتنا القبيحة، لكسلنا الكثير، لخجلنا بمهنة نفضل عليها البطالة، هو عامل البناء في أغنية الشيخ امام.. أما المقاول الأبيض فـ “كان ليه الشطارة”.
صديقي السوداني هو كل الرائع، في وطن لا شيء يغريني للبقاء فيه، هو آخر العمّال هنا، ويحمل في نفَسه آخر روائح الفلاحين في أرضي، صاحب الذوق الرفيق في انتقاء موسيقى العود، ليكنس خطايا روتانا من ذاكرتي، هو المتلحف بغطاء الإهانات المستمرة من حيٍّ لا يرى فيه إلا “فحمة”، وأرى فيه ضوءً لم تخطفه بعد عتمة الطغيان المتحكمة بكل أسرة، كل مدرسة، كل حزب، كل يسار وكل يمين، في هذا البلد البشع.
اسكب الشاي يا صديقي، هذا الشتاء البيروتي طويل، بيروت الجالسة على كف رجل أبيض ينهبها، تخاف فيك كل شيء مختلف عن عواء ذئابها الفاشيين، كل شيء لا يشبه استسلام أهل البلد للمال، واستسلامهم للسبات، كل شيء فيك يقنعني، أن لا زال في هذه الأرض ما هو لي ولك، للانسان فينا، للعامل يخرج لكسر هذه الطبقية التي تتهمك باللون، أو بالفقر، أو بالثياب الرثة أو برائحة العرق، يخيفهم ما فيك من كدٍّ وعمل وكبرياء، لأنك متعب، والمتعبون، يخيفون الكسالى.
صديقي، لا تسامحهم، حكومة وشعبا ومؤسسات، إنهم يعرفون جيداً ماذا يفعلون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق