الأحد، 20 أكتوبر 2019

تحية الى الثورة اللبنانية: شذرات من سيرة



الشعب، الحلم، هرمنا، بكينا، عكار حين غنت لصور فوق الخلافات المصطنعة، أبناء طرابلس أفقر مدينة متوسطية تخطوا الخلاف المصطنع بين التبانة وجبل محسن، فتاة تركل مرافق الوزير المسلح، شباب الجنوب يتقدمون بقمصان عارية أمام سلاح الميليشيا، صور الأباطرة التي تساقطت والشتائم التي انهالت عليهم، خوفهم لأول مرة من خروج الجمهور جدياً عن طاعتهم، ضحكنا، كيف صنعت الضحكة من القهر، حين يقبلون مراسلة على الهواء مباشرة، يلعبون البينغ بونغ و طاولة النرد جنب الدواليب المحترقة. دبكوا ورقصوا، كأنهم في حفلة. ضحكنا، بكينا ضحكاً. 
تركت الدمع يجري على الورق ليكتب. حرقة السنين في الهجرة تكتب. الأسى في البعد عن الشعب المنتفض يكتب. الأمل في غد أفضل يكتب. 

وأهديكم القبل و الموسيقى والقصائد و أهديكم شهادة الدكتوراه التي أقدمها بعد أسبوعين بعيداً عنكم وعن أهلي. 
أقول لكم ما هي مطالبي التي ذكرها الكثيرون من المتظاهرين: دولة مدنية علمانية ديموقراطية عادلة اجتماعياً، دولة  تؤمن مساعدات من تعليم وطبابة وسكن ونقل عام محترم، دولة في القرن الواحد والعشرين لا يقطع فيها التيار الكهربائي، دولة أجد فيها عملاً بدون واسطة ، دولة تتيح حقوق المرأة باعطاء جنسيتها لأبنائها و حق ألام المطلقة بحضانتها، دولة يمكنني فيها أن أتزوج الفتاة التي أحب مدنياً، حكومة فيها الرجال المناسبين في أماكنهم وهم لا ينقصون، دولة يتوقف فيها النهب والمناقصات والصفقات. 
وأترك لكم الحرية بعد ذاك أن تقرأوا هذه الشذرات من سيرتي الذاتية كيف تقاطعت مع سيرة وطن لم تتح لي الفرصة لأسردها من ساحة رياض الصلح.
بعد أن أنهيت دراستي في الهندسة، كان جل همي أن اجد طريقاً للسفر هرباً كآلاف اللبنانييين من شباب وكهول. وحين تسنت لي أول فرصة ألتقطتها. 
أربع سنوات في السودان الشقيق (الذي أرانا نموذجاً للثورة لاحقاً كي نقتدي بها).  
من بعدها ضرب الحنين وكان زمن ثورات بلاد العرب، قررت أن أعود الى لبنان. 
حاول حينها رفاق من أحزاب يسارية القيام بحراك لاسقاط النظام الطائفي، لم يثمر. كان النظام لا يزال عصياً. 
ثم أتت خيبات الأمل، اخوان مسلمين ثم السيسي في مصر، حروب أهلية في اليمن وليبيا، حرب أقليمية وعالمية في سوريا. تشوهت طموحات العرب. وكان ما كان من صراع يشتد في لبنان بين أقطاب النظام وهم متشاركون. 
شاركت بشكل متواضع مع رفاق كثر في حراكات مستمرة، دعماً لنضالات المعلمين و سلسلة الرتب والرواتب بقيادة النقابي حنا غريب، رفض لتمديد أقطاب السلطة للمجلس النيابي مرتين متواليتين، المطالبة بقانون انتخابي نسبي على أساس دائرة واحدة خارج القيد الطائفي.... كنا بضع مئات أو آلاف في أفضل الحالات. 
من اليأس وبحثاً عن عالم أفضل قررت الهجرة. احتضنتنا فرنسا. كانت أماً حنوناً ، كطالب أجنبي كان لي مساعدة في السكن، تامين طبي شامل، شبكات نقل داخل المدن متطورة بأرخص الأسعار، الخصومات التي تقدم للطلاب ومحدودي الدخل، التعليم شبه المجاني .... كل هذا وأنا الغريب في فرنسا، لم يكن متوفراً لي في بلدي. هل حقاً كنت غريباً في فرنسا أم في لبنان. 
ثم أتت أزمة النفايات، كنت في اجازة وكان أول حراك في رياض الصلح، ذهبت . كنا بضع عشرات وحين عدت الى فرنسا، انتفض الشارع لأول مرة وكان حراكاً كبيراً بدأ يتبلور وان لم يثمر. 
خيبة أخرى. عاد أقطاب النظام و جددوا لنفسهم، توافقوا على عون رئيساً، على قانون انتخابي نسبي طائفي مشوه، اعادة انتاج مجلس نيابي، وبعد سنة من العناء ألفوا حكومتهم الهجينة. 
هذا الصيف كانت خطوبتي، أنا ابن الجبل الدرزي من بنت صور الشيعية. خطوة فردية ولكن في وطننا تكتسي أهمية، أنها خطوة فوق الطوائف. 
رغم ذلك، كانت عودتي صعبة. من غابة الطرقات اليومية الى المجتمع الذي جعلوه ينزعنفاً وصولاً الى الفساد . تلقيت مخالفة سير لأسباب تافهة ولولا المحسوبيات لم أكن لأتخلص من حجز سيارتي، فيما زعران البلد يسرحون ويمرحون وينهبون. كان يأساً كبيراً .
من أسبوعين، بدأت ملامح الانهيار الاقتصادي، انقطاع للبنزين والخبز وارتفاع سعر الصرف وصولاً الى أزمة الحرائق التي أفاضت الكأس 
.
ومن يومين فقط تحرك الشعب، هز عروش زعماء الطوائف ومحرماتهم، هز من يخوفون الناس من بعضها. قال كلمته: كفى الجوع والفقر والمرض فيما السياسيين ومصارفهم وتجارهم يرتعون في القصور. البعد الطبقي كان واضحاً . 
ورغم كل شيء، رغم الاخفاقات الممكنة و الخيبات المبكرة، رغم "العصي في الدواليب" التي يضعها كثيرون، فان الامل كبير بأول مسمار يدك بجدية في بنية النظام، بانتظار سقوطه كاملاً، أهديكم شهادة الدكتوراه التي اقدمها بعد أسبوعين سلف. 

احسان المصري 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق