السبت، 20 أكتوبر 2018

المادية بمواجهة المثاليات : بين العلم والسياسة


مجلة النداء - العدد 19-10-2018

الماركسية (على ما في التعريف من ظلم لأنجلز ولسابقين ولاحقين ساهموا في تأسيس وتطوير النظرية)  مفهوم للعالم (فلسفة وفكر وانتماء وتطبيق)، يتبناها الكثيرون ولكن قلة منهم تفهمها وقلة أقل تسعى لتطبيقها. نفس الامر يمكن قوله حول اليسار كمصطلح يشمل تحت جناحيه مروحة واسعة من التيارات، ومنها أبعد ما يكون عن اليسار بمفهومه سواء تيارات الاشتراكية الديموقراطية او اليسار الليبرالي او التروتسكية وغيرها... وهذه التيارات نرى بعض نماذجها في العالم العربي بل على صعيد العالم. ولا تنحصر هذه التيارات التي تنحو احياناً مناحي مثالية في السياسة بل تمتد الى العلم والفن وكافة مجالات الفكر والحياة. وهو ما سنحاول اعطاء امثلة عليه.
الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الماركسي هنري لوفيفر وفي كتيب تفسيري بعنوان "الماركسية"  [1]، يقدم مقارنة بين المادية والمثالية، ففي حين ترى المثالية جمود الواقع، ترى المادية الواقع في حركة دائمة وحين تعجز المثالية عن رؤية الواقع بتناقضاته، تسبر المادية تناقضات الواقع وعناصره لتستنبط منها تحليلاتها.



المثالية في العلم
والغريب ان الاسقاطات المثالية في العلم (الذي يفترض ان يكون مادياً) كثيرة في انعكاس لطبيعة المصالح الطبقية المسيطة بالعلوم . منها ما يمتد من محاولات تأسيس معادلات ونماذج رياضية ومحاولة الصاقها بالواقع عوضاً عن دراسة الواقع تجريبياً وايجاد النماذج الرياضية التي تناسب هذا الواقع.  وهو تيار يتبناه بعض العلماء وفلاسفة العلم ككارل بوبر حيث يعتبر "ان النظرية تصاغ ثم تعتبر علمية اذا كانت قابلة للاختبار بواسطة التجربة وفي هذا محاولة لنفي الحقيقة التي تصبح نسبية". [2] وهو ما يتجلى في نظرية الأوتار مثلاً حيث تجري محاولة لدمج نظريتي النسبية العامة و نظرية ميكانيك الكم في نظرية موحدة عظيمة (Grand Unified Theory) ولكن ذلك لا يمكن تحقيقه الا اذا اعتمدنا كوناً يتعدى قدراتنا وتصوراتنا. ففي حين نسلم بكوننا الرباعي الابعاد (ثلاثة ابعاد مكانية وبعد زماني)، تتطلب نظرية الاوتار ابعاد قد تكون 11 وقد تصل الى 26 فهي اذن نموذج رياضي يحاول تفسير ما نعجز عن تفسيره لحد الآن. ومن ذلك أيضاً يمكن اعتبار نظرية البيغ بانغ(او الانفجار الكبير) نظرية ذات بعد ميتافيزيقي [2] نظراً لتحديدها نقطة بداية الزمن فهي تشبه بذلك نظرية الخلق التوراتية. ويمكن ان نضيف التفسيرات الفلسفية لميكانيك الكم، والتي ان صح تطبيقها تجريبياً وهو ما نستخدمه في كل ما له علاقة بالإلكترونيات ولكن بعض التفسيرات الفلسفية قد تصل احياناً الى مستوى الخيال العلمي : مثال على ذلك ما يعرف ب "قطة شرودينغر" نسبة الى العالم الفيزيائي النمساوي شرودينغر الذي حاول تطبيق مبدأ اللاحتمية او مبدأ هايزنبرغ الذي يؤكد على انه لا يمكننا ان نحدد بدقة كمية الطاقة او موقع الجسيم في نفس الوقت لان اي محاولة لمعرفة احداهما ستغير حالة الاخرى ومن ذلك يستنتج في مثال غريب ان القطة قد تكون حية و ميتة بنفس الوقت.


اليسار المثالي في السياسة
و قطة شرودينغر يبدو ان لها تطبيقات في السياسة أيضاً حيث يتبنى البعض نظريات متناقضة في صلبها احياناً و ينحو البعض الأخر لتبني نظرية "لا هذا ولا ذاك". وهي نظرية شائعة في دوائر التروتسكيين العرب و في العالم.
في تحليل سياسي صادر عن دائرة هنري باربوس (مناضل وكاتب شيوعي فرنسي صديق للينين وغوركي توفي في موسكو عام 1930) للثقافة العمالية والشعبية وهو تجمع يضم مناضلين جذريين في الحزب الشيوعي الفرنسي وخارجه [3]، دحض لهذه النظرية التروتسكية حيث يقصر التحليل التروتسكي عن الاحاطة بالواقع ويسقط في مثالية مخيفة. التحليل المعنون "العدوان الامبريالي على سوريا" يستعرض العلاقات المشبوهة بين قوى الناتو والحركات الجهادية في سوريا بالإضافة الى دحض الذرائع التي تستخدم دائماً للقيام بالعدوان العسكري في محاولة لمواجهة الوجود الروسي في سوريا.
ولكن المهم ايضاً اظهار التقارب بين فكر الاشتراكية الديموقراطية والفكر التروتسكي حيث يعتبر قدامى الحزب الاشتراكي الفرنسي (وهو اليوم شبه منحل بعد الهزيمة القاسية التي مني بها في الانتخابات الرئاسية الفرنسية و اتجاه كثير من قياداته نحو الماكرونية) ومن بين هؤلاء لوران فابيوس (رئيس حكومة ووزير خارجية سابق) وميشال روكار (رئيس حكومة سابق توفى في 2016) يعتبر هؤلاء :" ان الاشتراكية في بلد واحد لا معنى لها.... والديموقراطية الاجتماعية ستعرف عبر البحث بمساومة ثلاثية بين رأس المال والعمل، السوق والدولة، المنافسة والتضامن.... واعادة تأسيس الديموقراطية الاجتماعية سيمر حصراً عبر اوروبا.." الى غير ذلك من الافكار التي نجد منطلقات لها عند تروتسكي في رفضه فكرة الاشتراكية في بلد واحد.
ثم يأتي التحليل على نظرية "لا هذا ولا ذاك":  "لا صدام ولا بوش، لا ميلوسيفيتش ولا كلينتون، لا القذافي ولا الناتو" مع اعتبار دائم لاصحاب هذه النظرية ان صدام، ميلوسيفيتش، القذافي ، كيم جونغ اون ، بوتين، شي جين بينغ أسوأ من بوش ، كلينتون، اوباما، بلير، كاميرون، ماي ، ساركوزي ، هولاند، ماكرون، ميركل... وفي هذا استناد لا واعي الى نظرية شوفينية تجد جذورها في تحاليل صمويل هنتغتون حول صراع الحضارات. والحقيقة انو فوق هذه الثنائيات نظرية اعمق تساوي بين اميركا من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية بصفتهما امبرياليات وهي نظرية مردودة على مطلقيها وقد تم تفنيدها في دراسات كدراسة روسيا: "الشبح الإمبريالي"...؟! لمهند دليقان [4]  ومقال خرافة الامبريالية الروسية وآمال مواجهة الامبريالية الأميركية لمحمد فرج [5].
 وينتقد التقرير ضعف مواقف الحزب الشيوعي الفرنسي في تبريره للضربات العسكرية للناتو. ثم ينتقد مواقف حزبين تروتسكيين فرنسيين الاول هو "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية" في رؤيته المبسطة "للثورات العربية" ودعوته الى الوقوف بجانب "الثوار العرب" بالمطلق (أين هم اليوم، لم نرهم منذ زمن) و هو ما نراه أيضاً في مواقف بعض التروتسكيين العرب أيضاً والثاني هو حركة "النضال العمالي"  التي ترفض الاعتراف بطبيعة الصراع الدائر في سوريا كجزء من صراع ضد النيوكولونيالية الغربية.


خاتمة: في الصراع
وهكذا ينفي بعض اليسار المثالي الصراع ويعتبره ضاراً او عبثياً ويحاول البحث فكرياً عن وسائل لتجاوزه، فيما الحقيقة ان الانسان لا يتقدم الا عبر الصراع والثورات هي احدى اوجه الصراع. فكما يقول لوفيفر "الانسان لا يمكن ان يتطور الا عبر التناقضات، الإنساني لا يمكن ان يتشكل الا عبر اللاإنساني ، في البداية ممزوجين مع بعض، ليتميز الإنساني من ثم عبر صراع وليسيطر في النهاية عبر حل الصراع" . [1] فالإنساني لا بد انه غالب في النهاية بعد فترة من الصراع وهذا ما ادركه الشهيد باسل الأعرج وهو المثال الأوضح للمثقف العضوي - بمفهوم غرامشي - في عالمنا العربي. و نختم بقول لينين ينطبق على ما نشهده في يومنا هذا: "ان الامبريالية طورت القوى المنتجة الى حد ان البشرية لم يبق امامها الا سواء العبور للاشتراكية  او التعرض لسنوات بل لعقود لصراع مسلح تشنه القوى الكبرى للإبقاء الاصطناعي للرأسمالية عبر المستعمرات، الاحتكارات، الامتيازات والاضطهاد القومي من كل صنف" .


            
                                                                                    احسان المصري


 المصادر:

[1]
H. Lefebvre, Le marxisme, Paris : PUF, 1948.
[2]
ع. الشوك, تأملات في الفيزياء الحديثة, بيروت: دار الفارابي , 2012.
[3]
C. H. Barbusse, "Agression Imperialiste en Syrie," May 2018. [Online]. Available: http://cercles.communistes.free.fr/chb/publi.php?idArticle=2018_05_15_agressionsyrie.
[4]
م. دليقان, "روسيا: "الشبح الإمبريالي"...؟!," [Online]. Available: http://kassioun.org/reports-and-opinions/item/20138-2017-02-12-20-29-48.
[5]
م. فرج, "خرافة الامبريالية الروسية وآمال مواجهة الامبريالية الأميركية," [Online]. Available: http://www.al-nidaa.com/arab-and-wrold/item/31700-2018-09-01-11-19-24.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق