عندما كنت صغيرة، كانت حماسة الحرب الأهلية تبدو في التلفاز خافتة، وفي البيت ملعونة. لم يعد الرأي حينها هاماً، وإنما الشوارع. شيء زقاقي حلّ مكان ما بدا وكأنه قد حمّس الناس قبلها، من عروبة ومن تغرّب، من مساواة ومن طبقية. لم تكن تبدو الأديان جلية جداً في ثمانينيات نشوئي، لأن الحروب التي أذكرها، من بعد الاجتياح الإسرائيلي الذي شكّل وعيي الأول تقريباً عن عمر ٤ سنوات، كانت حروباً داخل الطوائف: »حزب الله« و»أمل«، »القوات« و»جيش عون«. لا يعني ذلك أن العلاقة الاجتماعية الطائفية، السنية ـ الشيعية مثلاً، كانت بألف خير، لا، أبداً. لكني ربيت في مدينة يقولون عن ماضيها إنه جميل جداً ويخرسون تماماً عن حاضرها، بكل ما في الخرس من عنف، كأن هذا الحاضر لا يجري الآن، أو على الأقل، هم لا يحفظون عنه تاريخاً، لأنهم مقموعون في عيشه، وهو ملوث كالدخان الذي يغطي بيروت دوماً ليلاً. في هذه البيروت ربيت، وتعلّمت أن كل رافع سلاح فيها لا يرفعه إلا ليعتدي عليّ. لم أتعلم أن أجد نفسي في أي سلاح، وإنما في التجوّل في شوارعها برفقة خالي، في سيارته، كلما دبّت الهدنة لساعات، من أجل تعبئة البطارية حيناً، وليحفّظني الأحياء وقصصها في حين آخر. أما الطوائف فهي موجودة جداً، لكن الحديث عنها عيب لأنه سيكون شتيمة لصاحب السلطة في الحي، فتعرّفت إلى حديث الطوائف بصفته عيباً. وبقي هذا الحديث »عيباً« حتى جعلته أنا جرماً، بقوة المراهقة وتمرّدها اليساري. انتهت الحرب الأهلية وحان وقت السلطة الهجينة التي قامت من بعده وبقيت حتى اغتيال الرئيس الحريري ثم عادت واستمرت بعد الاغتيال بساعات قليلة، وها هي اليوم تنتعش في رحلة شباب جديدة. تلك »المرحلة« الهجينة، عشتها كثيراً في لبنان. عشتها كلما كان لبنان لا يتشاجر مع نفسه. وكنت أظنها الحضيض، في التسعينيات. حضيض المخابرات، والتطاول، والعزل، والتعايش بالإكراه، والصمت... مع بعض إشراقات الحرية المؤمنة إلى المنازل، كي لا ينفجر سكانها. ظننت أن التسعينيات هي الحضيض بينما كنت أعيشها، لكن المصيبة كشفت خمارها في ألفية جديدة يكتبها أبطال وحرامية يتفقون جميعهم على بند واحد هو: الطائفة فوق كل شيء. لماذا؟ لأن الأمان مفقود خارج الطائفة. إن لم نجتمع ونتّحد، فسنفنى. عناوين الجرائد طائفية، سائقو سيارات الأجرة طائفيون، شاشات التلفزيون طائفية، رجال الدين طائفيون، موظفو المصارف طائفيون، الباعة في المحلات، الزملاء في العمل، الرؤساء في الجمهورية، العشاق تحت ضوء القمر، والقمر، كلهم طائفيون. وجميعهم يتحدثون بالفم الملآن، ولا يترددون. نشرت »القوات« في الشوارع قراءتها للبنان وأرزته بحدود شديدة الضيق، فردّ »التيار« على الحملة الدعائية عبر شاشته البرتقالية بالأنكى ضيقاً! رأيتهم على التلفزيون ولم أصدق لا عيني ولا أذني لكنهم الواقع كما هو: »البرتقاليون« يقولون إنهم هم المسيحيون بينما »القواتيون« ليسوا أكثر من أتباع آل الحريري. قالوا إن »حزب الله« أقسم لهم بحفظ دَين حرب تموز حتى يوم القيامة، في مقابل تحالف »القوات« التبعي مع »المستقبل«. ما يعني أن »مسلمينا« أحسن من »مسلميكم«! كمن يعاير الآخر بسوء اختيار المسلمين الذي عليه أن يتحالف معهم ليحفظ حقوق المسيحيين! هذا كلام خانق. ثم فتح »التيار« ملفات الماضي وتلا أسماء قتلى الحروب الداخلية والتصفيات داخل الطائفة، والماضي بأغنياته وقصر بعبدا وعون ثم عون فعون، وبالتأكيد عون ناهيك عن عون لأن عون وختامها عون. عندما أتى عون من فرنسا، رفع لافتة تبشّر بالجمهورية على الطريقة الفرنسية. واليوم، يقول عنوان خبر »السفير« من فرنسا عن لقاء رئيسها ساركوزي وبابا روما: فليحمي الشرقُ مسيحييه مثلما يحمي الغربُ مسلميه. الدنيا مقفلة. واليوم، ما عدت صغيرة، وتبدو حماسة الحرب الأهلية في التلفاز خافتة. لم يعد الرأي هاماً، وإنما صوت الطوائف وأنشودة حدودها وممتلكاتها. شيء زقاقي حلّ مكان ما بدا وكأنه قد حمّس الناس قبلها، من مقاومة ومن شرق أوسطية، من مساواة ومن طبقية. كأني أستعيد وعيي منذ البدء ومن جديد، في حين كنت أود لو أترحّل في وعي آخر، بدلاً من تكرار المكرر. وبما أن العين الناظرة إلى الحدوتة قد قرأتها حتى اللحظة مرتين، فهي لن تكمل القراءة الثانية، وستأمر العقل والإحساس بالتغيير. ستقرر السهر والمطالعة والضحك وتغييب الأسئلة الطائفية لأنها عيب أولاً، لكن أيضاً لأنها تعيق الحديث ولا تطوره. لن تغريها أعلام الأحزاب القبيحة التي تصد النظر ولا تريحه، ولا صيحات الحروب الانتقامية التي تمزّق الجسم ولا تحميه، ولا طبول العشائر ورائحة طبخها والنوم في كهوفها بدلاً من التجوّل على شاطئ بحر العالم. سأنتظر معرض الكتاب، وسأتابع معرضاً، وسأشاهد فيلماً، وسأحتضن الحب، وسألعن السلطات، وسأبتسم لخيار الرحيل لو انهار السلم هنا. فنحن هنا... حتى اللحظة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق