قررت اخيراً ان اشاهد
فيلم زياد دويري بعد الضجة الكبيرة التي أثارها في لبنان و بعد قراءتي أكثر من نقد
للفيلم في الصحف الفرنسية كان آخرها في صحيفة " Le Journal Du Dimanche" والتي يعلن فيها دويري
ان الفيلم بني على حادثة حصلت معه حين كان يروي شتلة له في بيروت فتسرب الماء الى
عابر في الشارع تبين أنه فلسطيني، فحصلت مشادة انتهت باستعمال دويري جملته
الشهيرة: "يا ريتو شارون بادكون كلكون"
ثم اعتذر من بعدها.
يبدأ الفيلم بخطابات سمير جعجع في مشهد ممثل وخطابات بشير
الجميل التي تستمر طوال الفيلم بما تتضمنه من فاشية ويرافقها دوماً تبني الخطاب من
قبل عادل كرم. وحين تقع الحادثة المذكورة أعلاه يطالب عادل كرم رغم أنه مخطأ "الغريب"
الفلسطيني بالاعتذار منه وحين يأتي الممثل الفلسطيني كامل الباشا ليعتذر ويقول له كرم جملته الشهيرة التي تعد "الاهانة" (وهو اسم
الفيلم بالفرنسية)، لم يتحملها الفلسطيني حيث يضرب كرم ويكسر أضلاعه. على اثرها، يرفع عادل كرم دعوى
على الباشا لحماية حقه في بلده من الغريب الذي في دفاعه لا يذكرالجملة المهينة
التي سببت الحادثة. ثم تتطور الأمور حيث
يتدخل أحد المحامين (كميل سلامة) الذي دافع سابقاً عن سمير جعجع أثناء سجنه ليتولى
قضية عادل كرم بوجه ابنته (ديامان بو عبود) التي تأخذ جانب الباشا. ويتطور الأمر
ليصبح قضية رأي عام ويكاد يثير فتنة بين المسيحيين والفلسطينيين. ورغم اعلان جعجع
(رفعت طربيه) طي صفحة الحرب في مقابلة مع وليد عبود (يظهر في الفيلم. لم يكن ينقص
غير مارسيل غانم) ورغم تدخل رئيس الجمهورية (انطوان مهنا) للوساطة بين كرم والباشا
حفظاً للاستقرار، يتهم كرم الرئيس بالتواطئ مع الفلسطينيين.
الخلاصة الرئيسية التي يمكن أن نستنتجها من الفيلم هي أن
هناك قضايا أخرى مهمة وليس ضرورياً ان تحظى القضية الفلسطينية بالأولوية،
فالمسيحيين اللبنانيين لديهم قضية وهم مظلومين أيضاً وربما غيرهم أيضاً (يذكر
المحامي الأرمن والأكراد و المثليين والسنافر... ) وكفى الفلسطينيين اصطناع دور
الضحية (خاصة أنهم مدعومون من الامم المتحدة و منظمات المجتمع المدني على لسان كرم
ومحاميه: هل يريدنا دويري أن نصدق كم هذه الاكاذيب). كثيرة هي الجمل التي تحتاج
الى تحليل نفسي بالمناسبة. خاصة ان الخطاب الفاشي التبسيطي كان طاغياً.
الخلاصة اعلاه تؤكدها صمت الممثل الفلسطيني معظم الوقت
واعلاء صوت عادل كرم ومحاميه. كأنه يقول، اكتفينا من خطاب المظلومية الفلسطينية
والآن الصوت للأخرين. حتى انه يستقدم جندي أردني مقعد بسبب ضرب الباشا له على اثر
احداث أيلول الاسود ليبشرنا بخطاب النظام الاردني عن التخريببين الفلسطينيين الذين
طردوا الى لبنان ليتابعوا تخريبهم. وهي خلاصة نتأكد منها أكثر حين نكتشف أن عادل
كرم من قرية الدامور، وهو هارب من مجزرة في الدامور ارتكبتها القوى الفلسطينية
والحركة الوطنية، (من دون اي ذكر انها حصلت رداً على مجازر الكرنتينا على ما اذكر ولا
لمجزرة تل الزعتر التي حصلت فيما بعد ولا لعشرات المجازر الفاشية بحق لبنانيين
وفلسطينيين). هو تغييب تام لوجهة النظر المضادة، باستثناء بعض الكلمات الواردة في دفاع
بو عبود عن الباشا وهي كانت تتطرق الى دفاع شخصي أكثر من دفاع سياسي فيما كانت
مجمل مرافعات سلامة مشحونة بخطاب اليمين اللبناني.
ينتهي الفيلم باعلان براءة الفلسطيني (هل هضم حقوق
المسيحي مرة أخرى) ويتصالح عادل كرم مع نفسه فيعود الى بساتين موز الدامور بعد ان
هجرها اثناء الحرب.
لا شك أن الفيلم بما يحمله من خطاب تبسيطي وتسخيفي
أحياناً وبتبنيه وجهة نظر منحازة يحتاج الى تحليل معمق ولكنني لم أستطع الا ان
اشارك هذه الملاحظات الاولية، خاصة حين نعلم أن وزارة الثقافة تبنت ترشيح هذا الفيلم ليمثل
لبنان في جوائز الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي (لحسن الحظ انه لم يفز) . اذا كان هدف
الدويري المصالحة فالاكيد انها لا تكون هكذا. المريب في الامر لماذا سمح عرض هذا
الفيلم رغم نكأه بجراح الحرب وهي حجة اعتمدت لمنع افلام شبيهة (فيلم شو صار لديغول
عيد عن مجزرة ارتكبها القوميون بحق الكتائب في عدبل – عكار او سمعان في الضيعة
لسيمون الهبر والذي يتطرق الى حرب الجبل بين الاشتراكيين والقوات).
بعد هذا الفيلم ندرك ان استسهال دويري زيارة اسرائيل هو
موضوع له أسسه فالرجل الذي صرع رأسنا بتأكيده انه من عائلة بعثية وقومية عربية ورضع
الحليب الفلسطيني فان كل هذه المبررات لا تفيد خاصة في ظل احتدام الصراع مع ترامب حول
قضية القدس. طبعاً من حق دويري ان يتبنى الخطاب الذي يريد. ومن حقنا ان ننتقده ونواجهه
بافلام وافكار مضادة لاثبات التزييف التاريخي الكبير الذي يعتري عمله. وربما لولا
النظام التوافقي الطائفي اللبناني، اقل ما كان يمكن ان يقوم به حزب الله وكل احزاب
المقاومة هو مواجهة هذا العمل بعمل مضاد، دفاعاً عن دماء آلاف الشهداء الذين ماتوا
من أجل فلسطين وعلى دربها ومن أجل مواجهة المشروع الفاشي الفيديرالي ولكن أحزاب
السلطة مشغولة بتناحر طائفي و زعاماتي في حرب نعيشها كل يوم.
"فلتتوضح كل المواقف.. ولتتحدد كل
المواقع.. ولتكن المجابهة في الضوء .كيف يمكن للثقافة أن يكون لها موقع الهامش في
معركة التغيير الثوري ضد الفاشية والطائفية؟ كيف يمكن للمثقف أن يستقيل من نضال
ينتصر للديمقراطية ... هو أوكسيجين الفكر والأدب والفن؟. بوضوح أقول : فالوضوح هو
الحقيقة ، من لا ينتصر للديمقراطية ضد الفاشية، للحرية ضد الإرهاب، للعقل والحب
والخيال وللجمال ضد العدمية وكل ظلامية في لبنان الحرب الأهلية وفي كل بلد من
عالمنا العربي وعلى امتداد أرض الإنسان ، من لا ينتصر للثورة في كل ان ، مثقف مزيف
وثقافته مخادعة مرائية. إذا تكلم على الثورة في شعره أو نثره .. فعلى الثورة
بالمجرد يتكلم من خارج كل زمان ومكان.. لا عليها في حركة التاريخ الفعلية وشروطها
الملموسة! وإذ يعلن في نرجسية حمقاء أنه يريدها... فبيضاء لا تهدم ولا تغير!! تبقي
القائم بنظامه .. وتحن إليه إذا تزلزل أو احتضر كثيرون هم الذين في لبنان يحنون
إلى لبنان ما قبل الحرب الأهلية ويريدون التغيير لعودة إلى الماضي ويريدونه ايقافآ
لانهيارات الزمان... أما الاتي فمن الغيب.. إلى الغيب . إنه موقف المنهزم لا
بصراع.. بل بتسليم واستكانة. إنه موقف من يصنع ( بضم الياء ) التاريخ بدونه وله في
التاريخ موقع ترفضه الثقافة ، إذ الثقافة في تعريفها مقاومة. فإذا ساوت بين القاتل
والقتيل انهزمت في عدميتها فانتصر القاتل وكانت في صمتها شريكته" - مهدي عامل
احسان المصري