أين الفرنسيين الحمر من انتفاضة السترات الصفراء ؟
تعيش فرنسا في
الأسابيع الأخيرة انتفاضة ما يعرف ب"السترات الصفراء" للاحتجاج على قرار حكومة ماكرون برفع أسعار المحروقات.
لفهم كيفية تطور هذا الحراك ووصوله الى هذا الزخم الشعبي غير المسبوق في عهد
ماكرون، لا بد لنا من العودة قليلاً الى الوراء.
تطور حراك السترات
الصفراء
فقبل هذا الحراك
وخلال سنة ونصف بعد انتخابه على اساس برنامج ليبرالي بامتياز لم يخفه حتى في حملته
الانتخابية، ولكنه برز بشكل أكثر وضوحاً بجملة قرارات يعتبرها "اصلاحات"
منها: الهجوم على مكتسبات المتقاعدين وما تبعها من متظاهرات لكبار السن الفرنسيين،
التعديلات الغامضة في النظام الضريبي وخفض ضريبة السكن (التي يبدو انها لم تنخفض
في كل المدن)، طرح خصخصة شركة القطارات الوطنية المملوكة للدولة SNCF
وما اثارته من اضرابات لعمال الشركة ادت الى تعطيلات في حركة القطارات، رفع
الأقساط الجامعية لطلاب الليسانس والماجستير الأجانب بعشرة أضعاف معدلها الحالي
وهو ما قد يستتبعه رفع الأقساط للطلاب الفرنسيين أيضاً. كل هذا ترافق مع اكتشاف
مكامن الفساد في الحكم مع قضية "بن علا" وهو احد مرافقي ماكرون وصولا
الى التغييرات الحكومية واستقالة بعض الوزراء من فريق الرئيس و الملتحقين به ومن
ابرزهم وزير البيئة نيكولا هولو وهو رئيس سابق لحزب الخضر التحق بماكرون كما فعل
الكثير من قيادات الحزب الاشتراكي (في طور الانحلال).
اذن كان الاجراء
الأخير برفع أسعار المحروقات، القشة التي قصمت ظهر البعير ودفعت الى التحاق الكثير
من المواطنين الفرنسيين بهذا الحراك الشعبي. الحراك الاحتجاجي على القرار بدأ بشكل
عفوي عبر دعوة على وسائل التواصل الاجتماعي الى استخدام السترات الصفراء كشعار
(المفروض تواجد هذه السترات في كافة السيارات وفق قانون السير الفرنسي). الحكومة
بررت القرار لاسباب بيئية التزاماً منها بمقررات قمم التغيير المناخ المعروفة باسم
COP .
ولكن الأغلبية الشعبية اعتبرت هذا القرار هجوم على آخر ما تبقى من قدراة شرائية
للمواطن الفرنسي خاصة أن الكثير من العائلات والمواطنين يعيشون اوضاعاً مادية
مزرية. وهذا ما شاهدناه في مظاهرات ضمت ما يقارب 290 ألف في مظاهرة السبت 17 تشرين الثاني ورغم تفاوت
الأعداد في كل مظاهرة (انخفض الرقم 130 الف في مظاهرة الأول من كانون الأول) الا
ان ما يهم هو انتشارها في كل المدن الفرنسية حيث يقوم المتظاهرون باقفال مخارج
ومداخل الطرقات السريعة الى المدن الكبيرة. في أغلب المدن اتصفت التظاهرات
والاعتصامات بطابع سلمي لكن المناوشات العنيفة بين قوى الأمن وبعض المتظاهرين بشكل
رئيسي في العاصمة باريس أدت الى سقوط قتلى وجرحى كما هاجم المتظاهرون الكثير من
المحلات والسيارات الفخمة وبعض الاماكن الرمزية كقوس النصر وشارع الشانزيليزيه. السلطة
اتهمت مجموعات اليمين المتطرف او اليسار المتطرف (مجموعات تروتسكية وانارشية)
بافتعال احداث الشغب هذه. فيما أعلنت قوى اليسار مشاركتها في المظاهرات ودعا جان
لوك ميلونشون رئيس حركة فرنسا المتمردة الى المشاركة السلمية. كذلك دعت النقابة
العامة للشغل (CGT) للتظاهر والمطالبة برفع الحد
الأدنى للأجور (SMIC) . كذا فعل الحزب الشيوعي
الفرنسي الخارج من مؤتمره العام في 24-25 تشرين الثاني.
الحزب الشيوعي
الفرنسي ومؤتمره
اذن في خضم هذه
الأحداث العاصفة عقد الحزب الشيوعي الفرنسي مؤتمره ال 38 . حيث تم انتخاب فابيان
روسيل (النائب عن منطقة الشمال) أميناً عاماً فيما سيتسلم بيار لوران الأمين العام
السابق مسوؤلية المجلس الوطني. المؤتمر دعا الى اعتماد شيوعية تحاكي القرن الواحد
والعشرين. وقد شهد الحزب الشيوعي الفرنسي تاريخياً تحولات (ترافقت مع التحولات
التي حصلت في الاتحاد السوفياتي) من الستالينية الى الشيوعية الاوروبية ولكن لا
يمكن أن ننسى ان الحزب الشيوعي الفرنسي كان القوة الرئيسية الأولى في البلاد بعد
الحرب العالمية الثانية، هو حزب جان جوريس الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال النازي كما
كان له مساهمات في استحواذ الطبقة العاملة الفرنسية على قانون الضمان الاجتماعي
والرعاية الصحية عبر وزيره في حكومة ديغول الأولى بعد الحرب امبرواز كروازا الى غيرها
من المكتسبات الاجتماعية في عهد ميتران وهو
حزب أنتج العديد من المثقفين والمفكرين والشعراء مثل لويس التوسير، هنري
لوفيفر،هنري باربوس، لويس اراغون وبول ايلوار وغيرهم...
لكن في هذين
العقدين الاخيرين ومع تقدم اليمين وتراجع المكتسبات الاجتماعية وانحرافات
الاشتراكية الديموقراطية، عانى الحزب الشيوعي الفرنسي من تراجع في صفوفه وقدراته
الانتخابية (من25% بعد الحرب العالمية الثانية الى 2 % في الانتخابات الأخيرة) لذلك لم يقدم مرشحاً للانتخابات الرئاسية واكتفى
بدعم ميلونشون الذي استقطب العديد من مناصري الحزب وبات القوة الأولى في اليسار
اليوم مما سبب اشكالاً عميقاً حيث يرفض ميلونشون الحوار مع باقي قوى اليسار
التقليدي، فيما يطالب الشيوعيون بتحالف وقوائم انتخابية موحدة. خاصة ان انتخابات
البرلمان الاوروبي قادمة ويبدو ان كل قوى اليسار ستقدم لوائح منفردة مما قد يساهم
باضعافها.
فهل من أمل ان يستعيد
الحزب الشيوعي الفرنسي تاريخه ام انه خسره لأشكال جديدة من اليسار ممثلة
بميلونشون؟ وهل يستطيع اليسار بشكل عام أن يتجاوز الخلافات ويتحد لمنع تذويب حركة
"السترات الصفراء" أو تجييرها الى اليمين واليمين المتطرف أو جعلها
نموذجاً آخراً من ثورات ما يعرف "الربيع العربي"؟
احسان
المصري