كان مشهداً واحداً في في فيلمAnti-Christ للمخرج الدانماركي لارس فون تراير كفيلاً بان
يجعلني اشعر بدوار واتجه مباشرة الى الحمام. تقيأت.
وفجأة عادت ذكريات القيء. هذا الصديق الذي رافقني لفترات
طويلة. فآلام المعدة المزمنة التي تتفاعل حين تضطرب اعصاب المعدة كانت محرضاً
للتقيؤ المستمر.
كنا نجلس في مطعم جنوب-افريقي في الخرطوم. الاكل
المكسيكي الحار و حرارة الخرطوم الجافة مساءً واعصابي تضطرب لوجودي مع اشخاص غير
مناسبين كالعادة. تركت السندويش من يدي واتجهت الى الحمام. تقيأت.
الطعام الحار وخاصة الهندي احبه. ظللت آكل "التيكا
ماسالا" حتى اتيت بيروت مصاباً ب"البواسير". ولم ارتح الا بعملية.
دم يقطر من مؤخرتي وانا اركض في فردان حتى اصل الى الشقة.
كنا نحضر حفل "مشروع ليلى" في جبيل مع مجموعة
من الاصدقاء. لم اكن مرتاحاً نفسياً. شربت كأس تيكيلا
واحد في حانة في سوق جبيل الاثري فذهبت الى
وراء احدى السيارات وتقيأت.
ليلة رأس السنة كنت اقضيها وحيداً. اشاهد التلفاز. قلت
اشرب القليل من الويسكي مع اني لا احبها. تقيأت.
قال لي صديقي السوداني: خذ جرب الساعوط (تبغ شبيه بالقات
اليمني). لم يكن جسمي معتاداً النيكوتين. ما ان وضعته تحت لساني حتى شعرت بدوار. كان
يقود السيارة . قلت له: "قف جانبا". تقيأت.
قلت لها مراراً تصريحاً وتلميحاً: احبك. قالت انا لا
احبك. تقيأت.
شربنا الكثير من الفودكا يومها. كنا خمسة اصدقاء. شربنا
حتى ثملنا ودخنا سيجار الكوهيبا. ضحكت كثيراً.
وحين اضحك كثيراً تتحرك آلام المعدة مع الخمر. تقيأت.
كنا خمسة من بقي بعد ان تركنا الباقون. اصبح لديهم اموال
وسيارات فيما استمرينا على فقرنا وغباءنا. كان احدهم صديقاً عزيزاً نسهر معه
يومياً لنمارس السخرية اليومية.افترق عنا والتحق ب"بوطة" اخرى. مر
بسيارته يوماً :
-
"تفضل استاذ
احسان، افلا تسهر معنا؟"
-
"علي ان ادرس".
رفضت عرضه بطريقتي المعتادة. اختراع حجج للتهرب من صخب
السهرات ومن المنافقين. لست افهم ماذا يفعلون في سهرات الصخب. من يسمع من في
النهاية.
هي عادة مزمنة اخرى. كره السهرات الصاخبة. كنت في بداية
الشباب حين ذهبت مع اترابي الى كذا سهرة حاولت ان اندمج في هذا المجتمع المنافق
غصباً عني. لم استطع. ذهبت مرة الى سهرة ديسكو اقامها الشيوعيين آنذاك. كنت في
بداية المراهقة. لم استطع البقاء. كنت قد دفعت 10$ (كانت تحكي) رسم دخول على ان
آكل قطعة من ال"غاتو". لم استطع ان ابقى. تركت الحفل قبل ان يقطعوا قالب
الحلوى. بعدها حاولت مرات كثيرة. اذهب مع
ال"بوطة". احاول ان احرك جثتي الهامدة. لا احب الرقص. هذا فضلاً عن ان
اعز اصدقائي لم يكن يحب الرقص. لم يكن له هدف في الحياة سوى السخرية. فيسخر منا
دائماً. تركنا الرقص. وتركنا السهرات. وبتنا نعيش السخرية. اعشق السخرية.
على سيرة ال 10$ التي كانت ربما مصروف شهري آنذاك. اقتصد
فيها. اذكر اني كنت اسير من مستديرة الصالومي الى مستديرة الحايك مررت بسناك لم
يكن لدي الاموال الكافية لاكل سندويش فعدت خائباً الى القرية.
حاولت العمل في شركة احصائيات. درت في قرية رأس المتن من
اولها الى آخرها ولم يعطوني سوى 20$. في احد المطاعم في بحمدون قال لي النادل :
انت خرج مكاتب مش خرج مطاعم فعدت خائباً.
لم اكن احب القيادة ايضاً. المحاولات دائماً ما تبوء
بالفشل. كنت مهجوساً. غداً مفروض علي ان اقود السيارة من قلب الخرطوم الى احدى
الضواحي. فادرس الطريق ولكن كل هذا لم ينفع.
صوت ارتطام السيارة بدولاب الشاحنة الكبيرة لا يزال هنا.
كاد صديقاي يموتان لولا حسن الحظ. تابعنا يومنا في المخفر. كنت كالغريب في رواية
كامو انتظر المحقق. مشهد في قمة العبثية. جلسنا خارجاً نشرب الكركدي من عند ست
الشاي.
ثم لست ادري كيف بدأت اقود في لبنان. تجرأت ونزلت
بالسيارة الى بيروت. ولكن الكوميديا السوداء حين لا تجد موقفاً او لا تعرف كيف
تركن او تقف عند جسر الدورة لعطل ما او ان يتصل بك احدهم في السابعة صباحاً
"تعا زيح سيارتك. صافف على باب الورشة " .
ثم كان مشهد سيارتي تتزحلق وتدور دورتين ثم ترتطم بحائط
الاوتوستراد كافياً للقرار. لم اعتزل ولكنني ابتعدت. فالغباء في القيادة يضاف
اليها شح النظر والاموال المهدورة على شيء لا تستفيد منه كافية لاخذ قرار كهذا.
لم احب الكثير من الاشياء. لا احب المجتمع. حقد تجذر على
النفاق والدجل. ثم تمرست اكثر في الحقد عند دراسة طبيعة هذا المجتمع البطريركي. هشام
شرابي يفسر الكبت ومنه ننتقل الى مدرسة فرانكفورت. كبت جنسي. كبت يدفع الشباب الى
حلول بشعة كارتياد المواخير في حال توفرت النقود ولكن حين لا تتوفر النقود نستورد
البورنو من الغرب. كبت يحتاج الى تفريغ. وفي قمة العبثية ان تضاجع احداهن فيما
ذهنك معلق مع عزيز يقبع في المستشفى في حالة صحية خطرة. صلة غرائبية دائماً بين
الجنس والموت.
كبت عاطفي ايضاً. لا احب عامة. هو نقص في العاطفة. قلة
العلاقات العاطفية مع النساء من جهة وحتى العاطفة العائلية قليلاً ما تظهر. صدمات عاطفية تجعلك تتراجع. يظهر الجبن. هذا
الجبن وضعف الشخصية عائد الى الطفولة ربما. والدي ضربني فقط مرتين او ثلاث ربما.
كانت كافية ايضاً لتثبيت الجبن. ثم تاتي الصدمات العاطفية لتزيد الجبن جبناً.
حين اتيت لاقول لها احبك وقبل ان اقول كانت تقول لي انها
تعرفت على شاب تبين لاحقاً انه معتوه. سحقاً. ما الذي اعجبك فيه. ولكن لحسن الحظ
اني اكتشفت لاحقاً صوابية التردد احياناً ينقذك من سقطات كثيرة.
مرت سنين حتى اتت تلك الفتاة لتتجرأ هي وتقول احبك. ولكن
تبين ان لديها امراضاً نفسية مزمنة.
وحين بدأت مؤخراً كسر هذه الحلقة. اظهار القليل من
العاطفة. احاول ولكني اكتشف رعونتي في الخيارات. ايضاً اعيد التأكيد ان التردد
فضيلة.
وفي غمرة الفشل والالم، ومن اعماق القيء والدماء، ولكي
ننتقم من عبثية العالم. بتنا نضحك لنخبأ آلامنا.
لم يبق لدي الا السخرية هي الصديق الآخر الذي رافقني. لم
يكن هناك من ملجأ آخر للهرب من قسوة الحياة. نسهر يومياً ونضحك. نضحك على القرية،
على الناس، واخيراً نضحك على بعضنا وكل منا يضحك على نفسه. لا نستنثني احداً.
اثمل واسخر واضحك كي انسى.